"القطاع الخاص .. استنزاف الطاقات بأثمان بخسة"

اراء

11:02 - 2025-08-08
تكبير الخط
تصغير الخط

بقلم: سالي خليل
في ظلّ التحولات الاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العراق والمنطقة، تعاظم دور القطاع الخاص كمحرّك أساس في سوق العمل، غير أنّ هذا الدور، في بعض حالاته، خرج عن إطاره التنموي والاجتماعي، ليتحوّل إلى أداة استغلال ممنهج للطاقات البشرية، إذ يُجبَر الموظف على العمل لساعات طويلة بأجور لا تتناسب مع حجم الجهد المبذول ولا مع تكاليف المعيشة المتزايدة.
بيئة عمل مُستنزفة.. بلا ضوابط:
تتجلّى معاناة العاملين في بعض مؤسسات القطاع الخاص عن طريق مشهدٍ يوميّ أصبح مألوفاً، كـ موظفين يُستَقدمون إلى مقارّ أعمالهم منذ ساعات الصباح الأولى، ولا يغادرونها إلا بعد انقضاء ساعاتٍ مرهقة تتجاوز الأطر القانونية، دون احتساب ساعات العمل الإضافية، ودون تعويضاتٍ مادية مجزية.
وفي ظلّ غياب الرقابة الفعلية على التزام أرباب العمل بمعايير العمل اللائق، يتضاعف العبء النفسي والاجتماعي على الموظف، الذي يجد نفسه في معادلة غير متكافئة بين ما يُبذله من جهد وبين ما يتقاضاه من أجر.
من لا يقبل .. فليبحث عن غيرنا:
عبارة تختصر فلسفة بعض أصحاب المؤسسات الخاصة الذين يعتبرون أنّ العرض الكبير للباحثين عن العمل يعطيهم الحق في فرض شروطهم التعسفية. فكم من موظفٍ قيل له صراحةً "من لم يرضَ بالقليل، فليبحث عن غيرنا”، متناسين أنّ الكفاءة والخبرة لا تُثمَّن برخص الأجر.
هذا النمط من التفكير، الذي يُعلي قيمة “الأرخص” على حساب “الأكفأ”، يُفرز بيئة عمل طاردة للكفاءات، تقتل في الموظف روح الانتماء، وتحوّل بيئة العمل إلى ساحة استنزاف جسدي ونفسي لا تليق بكرامة الإنسان.
غياب الضمان الاجتماعي.. عامل استنزاف إضافي:
(ما يزيد الطين بلّة) أن أغلب مؤسسات القطاع الخاص لا توفّر لموظفيها أيّ نظام ضمان اجتماعي حقيقي، فيُترَك العامل لمصيره دون أيّ حماية من مخاطر الحياة الوظيفية، كالتعطّل عن العمل، أو التعرض للحوادث المهنية، أو حتى بلوغ سن التقاعد، وهكذا، يتحمّل الموظف وحده كلفة ما يتعرض له من أزمات صحية أو مالية، في وقتٍ تُراكِم فيه المؤسسة أرباحها دون أدنى التزام تجاه من يدفع ثمن نجاحها بجهده ووقته وصحّته.

إنّ وجود نظام ضمان اجتماعي فعّال وشامل يُعدّ شرطاً أساسياً لأي بيئة عمل عادلة، فهو ليس مجرّد امتياز، بل هو حقّ أصيل من حقوق الإنسان في العمل، يكفل له الطمأنينة على مستقبله، ويؤمّن له شبكة أمان تَحُول دون تحوّله إلى ضحية سهلة في وجه الأزمات.

أزمات اجتماعية تتفاقم:
تتجاوز تداعيات هذا الواقع حدود المؤسسة إلى المجتمع بأسره؛ إذ ينعكس استنزاف الموظف المادي والنفسي على استقراره الأسري، وعلى مستوى رفاهيته الاجتماعية، كما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الاحتراق الوظيفي، ويُغلق أبواب الإبداع والمبادرة لدى الأجيال الشابة، التي تبدأ مسيرتها المهنية في بيئة ترى فيها نفسها مجرد أداة إنتاجية تُقدَّر بما تدرّه من أرباح لا بما تملكه من طاقات.
القطاع الخاص.. بين مسؤولية الضمير وواجب الدولة:
في الوقت الذي يُعوَّل فيه على القطاع الخاص في إنعاش الاقتصاد الوطني وتوفير فرص العمل، فإنّ هذه الغايات لا يمكن أن تتحقق في بيئة يغيب فيها الحد الأدنى من العدالة الوظيفية، فالمسؤولية تقع أولاً على عاتق أصحاب المؤسسات، الذين ينبغي أن يدركوا أن الاستثمار في راحة الموظف وكرامته هو استثمار طويل الأمد في جودة العمل واستدامة الإنتاج، كما أنّ للدولة دورًا محوريًا في ضبط هذه الانتهاكات، عبر تشريع قوانين عمل صارمة تُلزم المؤسسات بتطبيق معايير العمل اللائق، وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة.
العمل ليس سلعةً تُباع وتُشترى في أسواق الجشع، بل هو عقد أخلاقيّ وإنسانيّ بين طرفين، جوهره الاحترام المتبادل والعدالة، وحين تُهدر كرامة العامل، وتُسلب حقوقه في بيئة العمل، فإنّ المجتمع بأسره يصبح رهينةً لأزماتٍ متلاحقة، تبدأ بالظلم الوظيفي، ولا تنتهي عند حدود الانهيار القيميّ.

أخبار ذات صلة