حين يكون المساء هاجساً

د. جبار فرحان العكيلي

08/09/2024
تكبير الخط
تصغير الخط

حين يكون المساء هاجساً
قراءة في .. (حائط المساء) للدكتور نوفل ابو رغيف
 
كتابة : د. جبار فرحان العكيلي
بينما أتطلعُ متأملاً في عنوان المجموعة الموسومة (حائط المساء) للشاعر الدكتور نوفل ابورغيف، تراءت أمامي آلاف (اللافتات) وهي توشح (حيطان) العراق بالوجوم والتأمل والفقد الحزين والشجن .. وكأنه عبر مكابداته يريد أن يذكرنا بتلك الليالي والأيام  التي أخذت منا ما أخذت بين قلقٍ وانتظارٍ وخساراتٍ على جميع المستويات ومن بين النصوص الـ(27) التي حفلت بها هذه المجموعة يبدأ الشاعر أبورغيف بدخولٍ مستفِزٍ، من دون مقدمات، فهو يصطحبنا معه إلى عالم العائلة ورموزها بالرجوع إليهم رجوعاً حميمياً واستذكارا غارقاً في الجذور، .وهي تسقى بدموع الثكالى، كما نلحظ من خلال نصه الافتتاحي المعنون (إليهم مجددا) قائلاً:
((* لأجلكَ كلَّ مرةٍ يا أبي..
  للرصاصِ الغافي في جبهتكَ المضيئةِ وقلبكِ الشاسع
* لعباءةِ أُمي .. نبوءةً أخرى .. وخيمةً نأوي إليها
* والى من كانت تراقبُ سهادي وأشرعتي
* والى المحسد هلال..
  ولدي الذي يشبه أبي آسما ووجهاً وروحاً
* والى ميامين والأغر والمجاب وأيائل
   والى .. والى ..))(1)
حيث يَمدُّ الى العائلةِ جسراً راسخاً ليرسُمَ رجوعاً حتمياً، استذكاراً لإرثة في الجذور (من.. والى) .. وهي دعوةٌ لمواصلةِ الخطى صبراً نحو العلا والمجد، ما بين مفارقاتِ الحياة وظروفها حزناً كانت أم سرورا،وهي إحدى علامات تأكيد صلته بحبل الجهاد الإنساني والوطني مروراً بمحطات سياسيةٍ ومنعطفات ثوريةٍ حافلة بالمزيد.
ثم ينتقل الشاعرُ للمجيء عبرَ قطعانِ الغيم المتكسر على حجارة المنفى المعنوي وغفلة الزمن القاسي..  يجيءُ بكلِ نتؤاته وأسراره الموجعة التي تخدش سمعَ الأرض حينما يُمسكُ بها الحيفُ وتؤرقها الثورةُ العطشى، وليس كل الأحاديث تتشابه مع مقاساتنا الذاتية المبنية من حصى الانتظار.
إنها لغة مشتركة استطاع الشاعر د. نوفل أبورغيف أن يمسكَ من خلالها بمفردات الحوارات اليومية عبر المراجعة الشخصية للاستدلال على طرق النجاة عبرَ بوابات الخلاص الأبدي والتمركز في بؤرة أفكار الشاعر الموشومة بالقهر والانتظار.. 

ثم يعترفُ الشاعرُ بأَن مساءاتهِ لا تشبه مساءاتِ الآخرين، فهو يتوجسُ من مساءٍ متطفلٍ يدخل عليه من دونَ أن يطرقَ باب طمأنينته التي ينشدها، وهو المساء المخبوء تحت نوايا السلطة وهمجية الجلادين،          وهنا يَعترفُ الشاعر لمسائه بأنه ضيعَ طفولته بين الصَبرِ والألم والطموح والعناد، دون أن يدري،           وهو الساكن في منازل الانتظار المفروض، يقول:

( غيمٌ رماديٌ ..  
  يَجيءُ من النهايات
  يرسو عند سماواتنا
لم يكن يتركنا طويلاً في مرات سبقت
لكنه صار زائراً بعيداً
فلَعَلَّهُ غَيمٌ مختلفٌ
نَبَتَ في نهاياتِ ذلك الغيمِ الأول) (2)
ثم يَستذكرَ الشاعر كيفَ أن الموتَ يتربصُ بهِ وبعائلته وبطفولته دونَ أن يلتفت الآخرون أو يشعروا بهاجسه، ومن جاءَ،ومن سيحضر، وهذه لعنة أفلتت زمامَ اختيارها للشواخص المبهرة في زمنٍ غابَ فيه شعاع الإبهار في حلقات انتظار الموت والعمر المنفلت من زنزانات التحقيق ونتائجه.
ويَبقى الشاعرُ ابورغيف يتلذذُ باستذكارات مساءاته على الرغم من مرارتها وهو بعد ذلك يَعود لمساء آخرَ، لا يشُبهُ مساءاته التي صاحبها من قبل، إنها محنةُ الشاعر المتواصلة في الحياة.
حيث يبدو مساءُ الشاعر هذه المرة نافراً مستبداً بظلامه وقسوته، يقول:
(أيها المساءُ القديم ..
  لقد كنا نستعدُ لمساءٍ جديد
   فقد تأخرتَ علينا) (3)
أنه يتأمل المساء رغم عتمته ويمضي معه خلف أطراف النهارات الثقيلةِ الشاحبة.
ثم نرى الشاعر يحلم بالوطن حضوراً مشرقاً كالصباحِ، ولايريد لهُ أن يأتي مشرداً مع المساءات المكبلة بالقرارات المجحفة والموت، إنهُ فتى الحُلم الذي يقول في معنونته (مذكرات زوجة):
( في سفرِكَ الأخير
  كانَ الليلُ نائماً .. وكانَ بلا ذاكرةٍ
   لذلك لم أحلُم في تلكَ الليلة) (4)
ولا ينسى استذكار جنائز الأحبة الأقربين، ومن مرّوا في شريط العمر وحتى الغرباء المؤثرين، فقد أمضى نصفَ عمره يشهدُ جنائز الأحبة متألماً صبوراً سواءٌ بالفطرة أو بالتلقين، فهاهو في نصه بعنوان                 (مشهدٌ بغداديٌ للموت) قائلاً:
( وفي المساء ..
  ثمةَ موتٌ مختلفٌ
  يأتي متنكراً .. يطلقُ كلابَهُ الأَجيرَة
  وسدَنته
لفحص الخراب) (5)
ومع المضي في تفاصيل المساء، فالشاعر لايحتكر الإحساسَ به كما يَكون الحال مع بقية المساءات، وبذلك نرى أن الشاعرَ لا يريدُ احتكار القول له دون غيره .. فهو ينتظر كما تنتظر الأم ولدها، والحبيبة حبيبها وهي متأكدة أن السَفرَ طويل، وأن الأحلامَ واقفةٌ تحتَ ستائر الحجرة الباردة                                 يقول في نصه (لغة المشاوير):
( علَّمتنا الجَنائزُ ..
  إن نَتدرَب على الرَحيل
  ونُصغيَ جيداً الى درسِ الموت
وأَن نتأكَدَ من مغادرةِ الأَهلِ والأصدقاء سريعاً
وأن مراسِمَ التابوت
هي حَفلُ التَخرج الأَخير) (6)
وهكذا يَدخل المتلقي الى حلبةِ المساء المحاط بآلام العمر وهواجس الشاعر من حيثُ زياراته المتعددة واليومية لكهف مسائه الحزين، ولا نعرف هل أن الشاعرَ يحتفل بمجيء مساءاته ؟ أم بمغادرتها ؟ أم إنهُ مازالَ معلقاً باطراف أمانيهِ المسائيةِ ؟ على الرغم من كبت صراخه بوجه كل مساء مرَّ به، فهوَ يرى صورته مبللةً بدمعةِ أُم ٍ أو خليلة، أو ارتجافة قصيدة عنيدة.
أن عناوينَ قصائدِه المسائيةَ ومتونَها جاءت بتركيزٍ كبير وقصدية عالية، ولم تكن صدفةً أو تناصاً مع أحلام الشاعر، يقول د. أبورغيف في (مرسم مسائي):
( كانَ الموعدُ يتفتحُ على ذراعِ المساء
 ليبدأ الشعرُ من خريفٍ آخر.  
  في مساءٍ بلون المساء) (7)
 
ربما يرى الآخرون أن القياماتِ قادمةٌ ولكن ليسَ كما يراها الشاعر، فهو مازالَ ممسكاً بقيامته التي يعرفها وأرشدته إليها السنوات، يقول في نصه (مذكرات زوجة/ إغفاءة):
(فهناكَ أنباءٌ بأنَ الصباحَ سيأتي
   وهم يراقبونني
   يرونَ احتراقي واختلافي .. لأَنكَ ستأتي) (8)
الشاعر ابورغيف لديه هاجسٌ آخر هو توأم المساء، وهو الموت، ذلك الضيفُ المخيف الدائم .. فيحاول أن يحّملَ صورَته، أو يجعلَ من الموت صديقاً، حتى وإن تعطلت مركبتُهُ عند منعطف العمر أو عند زاويةَ الخلاص، إلا أنه يصطدم مرةً أخرى بموت مساءاته التي كان يحلم بأنها سوف تأتي بصبحٍ جديد.
ثم يقدم الشاعرُ صديقهُ الجديد القديم للموت والمساء ليكتمل الثالوث.. حيث يذكر أن القلقَ هو صديقُ الشاعر الذي يتقاسم معه الطفولةَ والكتابَ والشوارعَ والأيامَ والخطواتِ المرتعشةَ عند كل رصيف ..           يقول في نصه المعنون (لماذا قصائدنا؟):
(هكذا هم الشعراءُ ابداً
   مهووسونَ بالليلِ والقهوةِ والبلاد
   ومأخوذونَ بنزفِ القصيدة
* يراودنا قلق الكتابةَ وسؤالها الكبير
  كيف نرمم أسماءنا الخاوية ؟) (9)
فهل يأتي القلقُ أبيضَ كما الشمس ؟ أم أسوداً كما الليل؟ سؤال لابد منه في زمن غابت عنه سطوة السلاطين وأعذار الرعية المعتادة، يطرحه أبورغيف كلَ مساء، ليبقى المساء لدى الشاعر قاسماً مشتركاً لكل هواجسه وقصائده وأفكاره.
ولنتأمل في عباراته التي حفلت بالمساء على امتداد مساحة الكتاب، لنلحظ حجم التركيز على هذه المفردة وقدرة توظيفها في كل مرة بمساحة مختلفة ووعي جمالي عال.
( في حَديثِ المساء / أيها المساء القديم/
  لقد كنا نستعد لاستقبالِ مساءٍ جديد/
  لنسلمها لمساءٍ آخر / أُريد مساءً آخر اقاسمه مسائي هذا/
  فلتكن معي دائماً ايها المساء/ رسوم على حائط المساء/ ونواصلُ المساء/ .مثل لهفةِ المساء ..
  في غروب آخر/ مرسم مسائي/ مساء بلون المساء/
  أنه دعاءُ المساءات القصية/ حين ينزل المساء)
لقد كان المساء حملاً ثقيلاً استطاعَ أن يزيله من على كتفيه ويسحبه خارج جدران الآخرين وغرف الكتابة الجامدة .. ليبدأ نهار الشاعر من قلق المساء.
 

المزيد من مقالات الكاتب